الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013
1:09 ص

وصف أجسام الجن


قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في قولهم إنهم أجسام رقيقة ولرقتهم لا نراهم والدلالة على ذلك علمنا بأن الاجسام يجوز أن تكون رقيقة ويجوز أن تكون كثيفة ولا يمكن معرفة أجسام الجن أنها رقيقة أو كثيفة إلا بالمشاهدة أو الخبر الوارد عن الله تعالى أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلا الأمرين مفقود فوجب أن لا يصح أنهم أجسام رقيقة أصلا فأما قولهم إن الجن إنما كانت أجساما رقيقة لأننا لا نراها وإنما نراها لرقتها فلا يصح لأننا قد دللنا على أن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية في باب الرؤية ويجوز أن تكون الأجسام الكثيفة موجودة ولا نراها إذا لم يخلق الله تعالى فينا الإدراك وقال ابو القاسم الانصاري في شرح الارشاد حكاية عن القاضي ابي بكر ونحن نقول إنما برأهم من رآهم لأن الله تعالى خلق له رؤية وأن من لم يخلق له الرؤية لا يراهم لأنهم أجسام مؤلفة وجثث وقال كثير من المعتزلة إنهم أجسام رقيقة بسيطة.

قال القاضي وهذا عندنا جائز غير ممتنع إن ثبت به سمع ولا سمع نعلمه في ذلك فإن قال قائل كيف يمكن أن يكون الجن مخلوقين من نار مع ما علم أن أجزاء النار وتلهبها يقتضي افتراق اجزائها وعدم ثبوت بنية لها قيل قد ثبت أن الحياة لا تتعلق بحملة الجسم وأن الحي بها محلها وأنه لو استحال خلقها في الحي دون اتصاله ببنية لم يحتج محلها إلى كونه من بنية مخصوصة على أننا لو قلنا إن الحياة تحتاج إلى بنية لم يمتنع أن يبني الله تعالى من جسم النار وهي على ما هي عليه من التلهب والحركة أجزاء مؤتلفة غير متباينة فإن قيل كيف يجوز كونهم وكون الملائكة رقاق الأجسام مع عظم قدره وحملهم العرش وقلبهم لمدن وسد جبريل ما بين الخافقين بجناحه قيل لا يمتنع أن يخلق الله تعالى في أجسام الملائكة والجن وإن كانوا من نار وريح ما يصير بها إلى حد يحتمل زيادة القدر وقال القاضي عبد الجبار الهمداني فصل في كون اجسامهم رقيقة ولضعف ابصارنا لا نراهم لا لعلة أخرى لو قوي الله تعالى أبصارنا أو كثف أجسامهم لرأيناهم.

اعلم أن الذي يدل على رقة أجسامهم قوله تعالى “ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم “ فلو كانوا لنا مرئيين وإن كانوا بقربنا ولا حائل بيننا وبينهم بحيث يوسوسون إلينا وكانوا كثافا لرأيناهم كما يرونا كما يرى بعضهم بعضا وفي علمنا بخلاف ذلك من حالنا وحالهم دليل على صحة ما قلناه قال وقد ذكر شيوخنا أن الرقة أحد الموانع من رؤية المرئيات بشرط ضعف البصر كالبعد واللطافة ولهذا قالوا أنه يجوز أن نراهم إذا قوى الله تعالى شعاع ابصارنا كما يجوز أن نراهم لو كثف الله تعالى أجسامهم وعلى هذا الوجه يرى المعاين الملائكة دون من يحضره ويرونهم الأنبياء جميعا ويرون الجن أيضا دون غيرهم على أنهم لو كانوا كثافا لحجز الجني عن رؤية من بحضرتنا إذا تخلل فيما بيننا ويكون حكمه حكم الحائط وسائر الأجسام الكثيفة أنه متى كان ذلك بيننا وبين من يراه لو حجزها حجزت ومنعت عن رؤيته وفي وجداننا الأمر بخلاف ذلك في سائر الأوقات التي نجد الوسواس في قلوبنا على طريقة واحدة في أنه نرى ما بحضرتنا ما يحجز بيننا وبينه حائط وحاجز من بسائر الأجسام دلالة على صحة ما ذكرناه من رقة الأجسام قال وقد استدل غير شيوخنا على ان المانع من رؤية الجن هو أن الله تعالى لا يحدث فيهم من الألوان ما لو فعله لرأيناهم وليس المانع من الرؤية الرقة.

قال القاضي عبد الجبار وهذا لا يصح لوجوه منها أن الله تعالى يراهم ويرى بعضهم بعضا ولو كان الأمر كما قالوا لما جاز أن يروا لأنه جعل العلة في جواز كونهم مرئيين هو إحداث لون مخصوص فإذا لم يحدث لم يكونوا مرئيين وأن يكون الله تعالى أحدث هذا اللون فلهذا رآهم ورأى بعضهم بعضا فيجب أن نراهم نحن وفي عالمنا بأن الأمر بخلاف ذلك دليل على بطلان ما ذكر من الاستدلال ومنها أنه لا يجوز خلو الأجسام من اللون أو ضده عن شيخنا أبي علي فلا بد من أن يكون فيهم لون من الألوان وكل ما يتضاد على الجسم ويدرك بحاسة فلا بد من أن يدرك تلك الحاسة ما ينافيه وبضده وقد جعل الله تعالى في الجن اللون الذي ذكره هذا القائل ورأيناهم ثم نفى هذا اللون بلون آخر لوجب أيضا على ما قلنا إن نراهم فإذا كان حكم كل لون هذا الذي ادعاه في أنه يدرك بالحاسة التي يدرك بها هذا اللون ويدرك الجن لأجله ثم لم تخل الأجسام من الألوان كلها على مذهب شيخنا أبي علي ووجب أن نراهم وفي علمنا باضطرار أن الأمر بخلاف هذا دليل على سقوط هذا الاعتراض وأما على قول أبي هاشم فإنه يجيز خلو الأجسام من الأعراض كثيفة كانت أو رقيقة سوى الألوان ولو كانت كثيفة لم يكن بد من أن يراها الرائي مع عدم السواتر وكيف يصح له هذا الاستدلال مع هذا القول على أن الجسم يرى وإن كان يرى معه اللون ألا ترى أن الرائي يرى حدود الجسم وطوله وعرضه وهذه صفات الأجسام لا صفات الألوان فدل على ان وجود اللون في الجسم ليس من شرطه كونه مرئيا فقد بان بهذه الوجوه بطلان هذا الاستدلال وأن الدليل في كوننا غير رائين لهم إنما هو رقة أجسامهم على ما بينا.

قال وإنما يدرك بعضهم بعضا للطافة حواسهم وللطافة تأثير في هذا الإدراك ألا ترى أن الإنسان يدرك بحدقته من الحر والبرد مالا يدركه بأسفل قدميه وذلك للطاقة الحدقة ونحن أسفل القدم وصلابته فإن قيل في الحاجة في رؤية اللطيف إلى قوة شعاع البصر في رؤيته قيل له الذي يدل على الحاجة إلى قوة شعاع في رؤية اللطيف لا يحتاج إلى مثل ذلك في الكثيف ألا ترى أنا لا نرى الريح ما دامت رقيقة لطيفة فإذا كثفت باختلاط الغبار رأيناها وهذا ظاهر فلذلك قلنا لو كثف الله تعالى أجسام الجن وقوى شعاع أبصارنا على ما هو عليه من غير أن يقوى لرأيناهم والله تعالى أعلم بالصواب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق